مسرح الكولونيالية- من السلام الزائف إلى الاستسلام والاستعباد

المؤلف: أحمد الشيخ11.16.2025
مسرح الكولونيالية- من السلام الزائف إلى الاستسلام والاستعباد

يبدو أن القائمين على المشروع الاستعماري الغربي، الذين يتربصون بالدول التي رزحت تحت نير الاحتلال الإمبراطوري، ومن بينها الدول العربية، قد عزموا على الانتقال إلى طور جديد. هذا الطور يتمثل في الأفق الذي يرسمونه من أدوار "وظيفية" للأنظمة التي قاموا بتنصيبها للتحكم في الشعوب، وذلك بما يكفل لهم استمرار الهيمنة على هذه الدول وانتهاك ثرواتها، في الحقبة التي يُطلق عليها العديد من المفكرين والباحثين اسم "الاستعمار الجديد".

إنَّ ما تحتشد به وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي من بيانات، ومواقف، وتدابير عملية، لا تترك مجالًا للارتياب في أن الغرب الاستعماري يبتغي اليوم أن يكون الامتثال الكامل لإسرائيل على الملأ، هو المعيار الأساسي لشرعية أي نظام والضمانة لبقائه في السلطة في مواجهة الشعوب، باستخدام أقصى درجات القسوة والعنف، وسلطة السجان في غياهب السجون. فإسرائيل تمثل مشروعه الاستعماري الأهم على مر تاريخه الطويل المليء بالصدامات مع الشرق العربي والإسلامي.

علاقة خفية

لقد مرَّ أكثر من عقد على حرب الغرب على فلسطين، والتي كانت بمثابة تمهيد لإرساء الحلقة الأشد أهمية في مشروعه الإمبراطوري (107 أعوام). ومنذ اللحظات الأولى، عمد الغرب سرًا إلى الاستعانة ببعض الأطراف في التوطئة لإقامة إسرائيل، مقابل وعود بإقامة كيانات ودول بعد أن تنطفئ نيران الحروب، وتنهار الدولة العثمانية، وهو ما تحقق بالفعل كما نشاهد اليوم.

لقد ظلت العلاقة بين النظام العربي، الذي أفرزته ما يسمى المرحلة الانتقالية لاستقلال الدول المستعمَرة، والكيان الاستعماري الإحلالي مستترة خلف طبول التحرير الجوفاء التي تصم الآذان، وتعمي الأبصار وتُظلم على القلوب، بينما كان من يدعون الاستقلال، وأدعياء المقاومة ومناهضة الإمبريالية، يعملون في الخفاء على تهيئة الجماهير لتقبل احتلال جزء جديد من فلسطين ومناطقها المجاورة، وهم يرددون مقولة "أخي جاوز الظالمون المدى" دون أن تتجاوز أفعالهم ترددات إذاعاتهم التي تتغنى بفلسطين من النهر إلى البحر، وكان هذا أول شعار مضلل رسمي للشعوب، على الرغم من دقته الجغرافية والتاريخية.

وأعتقد، انطلاقًا من إحساسي بالمسؤولية الأدبية، أننا كنا ننخدع بتلك الشعارات ونتماهى معها، بل كان النقاش بيننا نحن الطلاب يصل إلى حد التجاوز والسباب والاتهام. فالمنظمون للمشروع الاستعماري يتمتعون بمهارة فائقة وخبرة واسعة في تزييف الحقائق وغسل العقول وتوظيفها لخدمة مخططاتهم مرحلة تلو الأخرى، ونحن في غفلة وجهل مطبقين، وما زلنا كذلك في كثير من الأحيان حتى يومنا هذا.

فصل توسعي متجدد

كانت الأمور تُحاك وتُدبر على نار هادئة ترقبًا لبدء مرحلة التوسع الجديدة للكيان، في لحظة سانحة يبدو فيها للعالم أن إسرائيل تدافع عن نفسها في وجه من يودون إلقاءها في البحر، كما جرى فجر الخامس من يونيو/ حزيران عام 1967، فاحتلت فلسطين بأكملها ومعها سيناء والجولان ومناطق من لبنان. وبعد ذلك، أصبح الحديث عن "الأرض مقابل السلام" وفقًا لقرار الأمم المتحدة رقم 242، الذي صاغه أحد دهاة الاستعمار البريطاني، وقبله العرب المهزومون.

ولأن المهزوم تفقد روحه المعنوية مع هزيمته الميدانية، فإنه يصبح صيدًا ثمينًا يتلاعب به المنتصر، كما تفعل اللبؤة عندما تريد أن تدرب صغارها على الصيد، فلا تقتل الغزال الصغير في بعض الأحيان، بل تبقيه حيًا ليلهو به الأشبال، قبل أن تجهز عليه الأم وتبتلعه.

وهكذا ظل العرب بأنظمتهم مجرد دمى في يد المشروع الاستعماري، يوهمهم بأن الأرض ستعود قريبًا مقابل السلام، فيستسلمون لوهم الأمل، بينما يتدرب الأشبال الصغار، ويجهز المسرح، فترفع الستارة ويبدأ فصل توسعي جديد بطله الأكبر إسرائيل، وأبطاله الصغار بعض العرب المختبئين وراء الشعارات. أما المخرج المبدع فهو الغرب الاستعماري، صاحب المشروع ومؤسسه وحاميه.

وفي اللحظة المناسبة، يقرر هذا المخرج العبقري أن الوقت قد حان لكي يُمنح بعض المتخفين أدوارًا علنية، يعلنون فيها كالأبطال الشجعان عن صدهم للعدوان واستعادة الأرض، وتهتف لهم الجماهير حتى وإن استعادوا أرضًا نُزعت منها هي الأخرى قوتها، كما سُلبت الحمية من نفوس هؤلاء "الأبطال" الذين يتم إعدادهم تدريجيًا خلف الستار ليظهروا على المسرح عند بدء الفصل الجديد.

تخلي عن المسلمات

البطل المنتصر صاحب الدور الجديد لا يخشى أحدًا في شوارع البلاد التي حولها المخرج إلى مسرح له! يعلن بصوت عال ويثير الفوضى ويهدد ويدمر، ويصرح للعالم بأنه صانع السلام علنًا؛ لأنه الأقوى، إلى أن تحين لحظة إسدال الستار، ثم ترفع عن "أبطال" جدد قد آن الأوان لكي لا يظلوا هم أيضًا متخفين في الفصل الجديد.

الآن أصبح "السلام مقابل السلام" هو السائد في قناعة النظام العربي الرسمي، وربما لدى بعض شرائح الشعوب. ولا تسألوا عن معنى السلام وجوهره، فلهذا فصل آخر على خشبة المسرح الاستعماري لم يحن وقته بعد. هناك بطل طموح يرفض الانخراط في المشروع، ولا مفر من إدخاله إليه بسلاسة، فهو صاحب الأرض محور الصراع، وتطويعه هو الأفضل والأولى في الوقت الراهن.

يعلن البطل الطموح استقلال وطنه ودولته في المنفى، ويسير على السجاد الأحمر، أوَ لم يصبح رئيسًا؟! تعزف له الموسيقى الرسمية، ويخاطب العالم بأكمله ويدخل الحظيرة أخيرًا. يبدأ البطل التدريب على المسرح خلف الستار قبل أن يحين موعد ظهوره أمام الناس. يختار مكانًا بعيدًا عن شعبه في بلاد الجليد والضباب والأساطير، ثم يعلن للعالم اتفاق الخطوة خطوة. جزء يسير من الأرض مقابل السلام.

يصافح عدوه برعاية صاحب المشروع الأصلي ويصفق الغرب، ليس إعجابًا وتقديرًا لأداء البطل الجديد على المسرح وشجاعته، بل للمخرج العبقري الصبور صاحب المشروع وحاميه. إنه الفصل الأهم في المسرحية، فلا بد من إخضاع صاحب الأرض، طوعًا أو كرهًا، حتى ينضم إلى المشروع، ثم يتهافت بقية الأبطال الطامحين طالما أن صاحب الأرض قد قبل السلام مقابل وعد بجزء من الأرض، فأهل مكة، كما قالت العرب أدرى بشعابها.

يتزاحم الأبطال الطامحون نحو خشبة المسرح، بعضهم يتمتع بخبرة طويلة تمتد لعقود في التمثيل من وراء الستار، ويتوقون إلى الوقوف على الخشبة أمام الجمهور، مثل الشجعان الذين سبقوهم، وقد سئموا الكواليس وظلامها.

وبعضهم مستجد تدفعه حماسة الشباب وأوهام الشجاعة بعيدًا، فأصبح على استعداد للتنصل من كل الثوابت والمعتقدات مقابل "سلام بسلام" ووعد أو مال ورضا من المخرج الاستعماري المبدع الذي يحرك الجميع. إنه "السلام مقابل السلام" في هذه المرحلة، حتى يقرر المخرج فصلًا توسعيًا جديدًا.

أما البطل الأول والحقيقي على الخشبة، الذي تربى في كنف الاستعمار، فقد كبر وتجاوز الحدود المقبولة، وبدأ في كثير من الأحيان في معصية أوامر المخرج؛ لأنه يريد منه أن يعجل في الإخراج، قبل أن يستفيق بعض المشاهدين، ويكشفوا اللعبة واللاعبين، كما تنبئ بذلك إرهاصات غزة المقاومة المجاهدة، وترفع الستارة لبدء فصل جديد لا يصلح فيه شعار "السلام مقابل السلام"، بل هو "السلام مقابل الاستسلام" هذه المرة.

البطل المحمي الاستعماري يعلم أحيانًا من الخفايا ما لا يعرفه المخرج، فالأبطال الثانويون يتقربون إليه بغية الحصول على رضاه، ولا يرفضون له طلبًا، لعله يكون وسيطًا لهم عند السيد الكبير.

ومنهم من يسرع لنجدته وإغاثته إذا اشتدت عليه بعض الظروف أو تفاقمت المصاعب، فهذا إذن هو فصل "السلام مقابل الاستسلام" ولا بد من التعجيل بإسدال الستار عليه، ليبدأ فصل "أرض إسرائيل الكبرى" خارج حدود الاحتلال الحالية في كل فلسطين وفي الجولان وبعض لبنان.

أبطال مدّعون

ألم يقف بنيامين نتنياهو أمام العالم بأسره ليرفع خريطة إسرائيل الكبرى التي وعد بها الرب شعبه المختار، لتقوم بعد أن يقضي على العماليق أو ينفيهم ويستعبد من يبقيهم منهم ومن جيرانهم على قيد الحياة؟

ألم يقل بصريح العبارة إن إسرائيل الكبرى في الأصل تضم فلسطين ولبنان والأردن وأجزاء من سوريا وبلدان عربية أخرى، لكن إسرائيل، من باب الكرم، تقبل بكل فلسطين والجولان وبعض لبنان وطنًا خالصًا لليهود وحدهم، لا يشاركهم فيه أحد؟

أهذا مستبعد؟ لماذا؟

شاهدت على شاشة الجزيرة، وأنا أكتب هذا المقال مشاهد مروعة ليوم القيامة في شمال غزة، وعشرات الآلاف، بل مئات الآلاف من الجوعى، أطفال ونساء وشيوخ، يندفعون كالسيل الجارف نحو بضع شاحنات إغاثة سمح لها النظام العربي بعد دفع الإتاوات بالعبور من معبر رفح.

هذا الموت والدم والجوع والعري والمرض يجري على مرأى ومسمع من العرب منذ أكثر من خمسة أشهر، ولم يتمكنوا من إدخال سوى الأكفانَ، والقليل من الطعام الرديء، وهي أيضًا تدخل مقابل رسوم تذهب إلى جيوب أصحاب الرتب العسكرية الرفيعة. لا أريد أن أقول أكثر من هذا خشية أن أتجاوز الحدود في التعبير، وهو ما لا يليق بالكلمة ولا بصاحبها، حسبنا الله ونعم الوكيل.

ليس من المستبعد إذن، أن يرفع المخرج في مسرح الاستعمار الجديد الستارة عن الفصل الأخير من هذه المسرحية الهزلية، ليشاهد الجميع الأبطال الزائفين وقد خفضوا أبصارهم وأذلهم الخزي، وهم يتلوون ألمًا من سياط البطل المدلل، التي تحرق أجسادهم المترفة، بعد أن تحول السلام إلى استسلام، والاستسلام إلى عبودية لمن استهانوا بأنفسهم وكرامتهم. هذه هي سُنة الله في التاريخ، وغدًا لناظره قريب، فلا يلتفت أحد منكم، يا أهل غزة وفلسطين، إلى الوراء.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة